Scroll to top

عقل العويط

الشعر حزينٌ منذ الصباح. حزينٌ ومكسور الخاطر. أغصانه المنحنية ستنحني أكثر، لكنها ستنحني بكبر، وهي تأبى البكاء علناً، لكنها ستبكي بأوجاعٍ وحساسين كثيرة. لأن عصام العبدالله، بضحكته العريضة، وصوته المهيب، وقامته العالية، لن يكون حاضراً اليوم في المدينة. لا في الصباح، ولا في المساء. فهو قد آثر أن يأوي قبل الأوان، إلى ليله، بعد طول معاناة، تاركاً للظلال أن تلعب لعبتها، وأن تخاطب المدينة باللغة التي تستعيرها من خيالاتها الهاربة. لقد مات الشاعر.
مات عصام العبدالله، جليس الشعر، ومؤنس القهوة والمقهى، وحليف الرفاق، وتوأم الأرصفة البيروتية الحميمة، الباسق المرتعش مع النجوم، المسهِّر أرق الليالي، والموقظ الفجر المهيب، والمرافق الغروب المتأوه، إلى مثواه.

شارع الحمراء، وهو المدينة كلّها، على ما يحلو للشعراء أن يقولوا، ويزعموا، لن يكون على عادته، لا اليوم، ولا غداً، ولا بعد غد.

الشاعر الذي جعل الشارعَ هذا، يترنّح على إيقاع أشعاره وقوافيه، المتأوهة حيناً، المتمايلة حيناً آخر، والمجلوّة بالنجوم في الأحيان كلها، لن يذهب إلى موعد الرفاق. سيتأخر بالطبع، لأسباب معلومة. وقد يتأخر طويلاً، أكثر من العادة.

ألا يجدر بي أن أقول: تباً للأسباب، أيها الشعراء!

في المطلق، لا يليق موتٌ بشاعر، فكيف إذا كان الموت قد اختار شاعراً له في المحكية اللبنانية مكانةٌ عريقةٌ ومرموقة، وله في موسيقى الشعر وإيقاعاته وقاموسه والمعجم جروحٌ طيبة، حبيبة، رخية، موجعة لكن متناغمة، متآخية، ومتأرجحة بين طيران وغيمة.

هي جروحٌ جروح، ولا يتمنى المرء لنفسه منها شفاء. فكيف إذا كان الجريح شاعراً، أو حبيباً للشعراء!

“وارث” ميشال طراد، سعيد عقل، الأخوين رحباني، طلال حيدر، كان من المفترض أن يدير جلسة الشعر هذا المساء. هذا ما قاله لي رفاقه. لكنه لن يديرها هذا المساء، ولا في أي مساء. ولأجل ذلك ستنعقد الجلسة المعلومة في الهواء الرحب، في مملكة الشعر الطلق، حيث الروح حين تصبح طليقة، يحلو لها أن تردد مع الشاعر القائل “بحبّك متل نزل الشتي عليّي/ وما عاد فيي لمّ”، “بحبّك متل ولد وفزع/ وفتّش ع ريحة أم”؟!

والروح ستردد الشعر، وستواصل الترداد، وسيرجّع الصدى صوت الروح، وهي تقول: “بينزل مسك عَ خدودك/ وبينقط عليّ/ وعم شمّ ما عاد فيّي شمّ/ متل الكأنو عاقصك نحل العسل/ صاير ورد هالتمّ”.

ولن تكفّ الروح عن أخذ الشاعر بالرفق الليّن الحميم، وهو القائل: “صوتَك؟/ لما وقف ع صوتَك العصفور/ وهز تحتو غصنك الكحلي/ لعب الهواء بيناتكن/ صار الهوى تنيناتكن/ …/ صار الطرب شو تقول للعصفور/ وصار الشعر شو بدك تقلّي”.

ويا عصام العبدالله، “لِ بتعرفا العب معا/ لْ ما بتعرفا حبّا/ لْ ما بتعرفا بتألّفا/ وبتحطّ ضو الضو بـ عبّا/ بتصير انت مبيّن وواضح/ ويمكن شي مرة ينتبه قلبا