Scroll to top

جهاد الزين

صعبٌ عليّ أن أفصل بين شعر عصام العبدالله وبين إلقائه شعره صوتا ووجهاً.

أكاد أقول أن إلقاءه كان هو العنصر الشعري الأول في قصيدته. فهذه ليست الكلمات نفسها التي نعرف حين تخرج من فم عصام. تصبح كلماتٍ أخرى، بالحد الأدنى تصبح أقوى.

عصام كان شاعر فصحى بالعامية. لا أشك بذلك لحظة. معرفته باللغة العربية الفصحى وتذوقه الكلاسيكي والنيوكلاسيكي وانشداده الطرَبي للتفعيلة في الشعر العربي كانت جزءاً لا يتجزّأ من صداقتنا المزاجية في الثقافة. كنتُ، على تقطّع لقاءاتنا، فأنا آنس المقهى ولكني لا أحب الإدمان عليه، عندما أتجه إلى المقهى الذي أفترض وجوده فيه، ولم يخب ظني يوماً! كنتُ بالضبط أَعِدُ نفسي بأن نتابع معا بيتا آخر من أبيات قصيدة لشاعر من الكبار لم نتابعه قبل خمسة أشهر أو حتى سنة مضت على لقائنا السابق.

كان يلقي الشعر كمن يطلق النار عليك بحنان ونعومة الفرسان على صهوات أحصنتهم. وأعرف أنه كان لو قرأ وصفي له هذا لضحك كثيرا من ذلك الضحك الذي يغيب الفارق فيه بين كونه سخريةً على نفسه وعلى الآخرين بمن فيهم الذين أمامه. لكن ضحكة عصام لا تشبه غيرها. فهو حين يستشعر ضرورتها يستشعر بها عن بعد. يشم رائحتها كالصياد الذي يشم رائحة طريدةٍ في الغابات البعيدة.

عندما يحس أنها آتية تبدأ عضلات وجهه بالتحرك، الخفيف أولا، ثم تتصاعد رجفات خدّيه وعينيه وشفتيه تدريجيا وتشتد الرجفات فيما النكتة التي يرويها أو يحضّرها الجالس أمام عصام تتواصل وما أن تصل أو تكاد تصل إلى خلاصتها الساخرة حتى يكون عصام قد قبض عليها ورافقها بضحكة منفجرة تجعل النكتة حتمية التأثير. تصبح ملكه لا ملك قائلها وغالبا ما يمنحها هو الجزء الناقص من طرافتها، يسد عجزها بتفاعله كما يسد المرء عجزا في موازنة مالية. أما نكاته هو فحدّث ولا نهاية. لأنها لو جمعت ستكون أقرب إلى “سيرة” دقيقة لمكنونات بعضٍ شخصيٍّ حساسٍ من تاريخنا السياسي والاجتماعي اللبناني والشامي والعربي. ذهبت الشفاهة بما “أرّخ”، وذهب ضحِكهُ بما ضجر، وذهب وذهب…

هو أطرف البعثيين بعد خمسين عاما على تركه الحزب، هو من رجال آل العبدالله الواقفين حتى في “طريق الجديدة” على أسوار جبل عامل (ولوْ منسيّين)، وهو البيروتي “الأصيل” لهجةً وشارعاً بعدما لم يعد هناك “بيارتة” كثيرون مثله، وهو الشاعر الذي لا أفهم حتى الآن كيف لم يكتب شعره المحترف بالفصحى، وهو رب الأسرة الناجحة التي يخفي كثيراً تباهيه بما أنتج، وهو أيضا، على طريقته، من ذلك الصنف العجيب من الناس الذي يعجَب بمن هم أقل شأنا منه!

لكن هذا المتقاعد المبكر قبل أن يتقاعد، وابنَ الرواية المألوفة لطبقة وسطى تكوّنت بل ازدهرت في بيروت، وأحدَ الذين اعترفوا بفضل “لبنان الكبير” ولم ينكروه (“نريده ولو شبحا” حسب جملته المكتوبة في الحرب الأهلية)، لم يكن مجرد “مدير” مزاج اجتماعي. ولم يكن مجرد “مجنون” من مجانين الأدب الرائعين.

كان يعرف المدينة، الطوائف، النبلاء، الحثالات، النزيهين، الفاسدين، الأذكياء، الأغبياء. يعرف تاريخ المنطقة الحديث ويتحسس ثقافيا تاريخها القديم.

لذلك كان الحوار على متعته صعبا أيضا معه. لأنه إذا لم يعجبه التقييم أو التحليل انقلب فجأة إلى كادر سياسي حزبي “مكحكح” (دون حزب) سيلتقط الفواصل والتعقيدات ويدخلك في النقاش الصعب. لكن عصام، كان ضعيفا جدا أمام أي خبرية غير مألوفة أو مبدعة تُحوِّله باستسلام كامل إلى طفل يصغي ويحضِّر نفسه دون مقابل لترويج ما يصغي إليه. أما عندما ينزعج، فتطلع لهجته الخيامية، كأنه يريد أن يعاقب ويهدد دون إعلان