Scroll to top

سهى صبّاغ

مستعجلة و تيابها
دَقْ الربيع الباب
متل ال ك إنّا رايحة عالعيد
وبإيدها بَرق الشعر
اﻹلماز تاني إيد..

شّاعر الّلهجة المحكيّة عصام العبدالله، يلقي القصيدة، يغنّج الكلمات، يبتسم لها، يغازل حبيبته، فتطلع الآه من أصدقائه المعجبين بشعره وإلقائه. إلقاء عصام هو الشّعر نفسه. ابتسامته شقيّة حين يتغزّل أو يتحدّث مع حبيبته بطلة القصيدة.

عصام العبدالله، طلع إلى “مملكة فرعون” كما كان يحلم ويقول، بأنه يتمنّى أن يبني مملكته في السّماء كفرعون. بالتأكيد لن يتحمّل فرعون، وسيبني مملكته الخاصّة، أمّا على الأرض فمملكته كانت طاولة في مقهى، يستمتع بجمعة الأصدقاء، والنّقاشات والطرائف والشّعر، حتى أنه لا يلبّي دعوات السّفر ولا يرغب بها إلا إذا كانت بهدف رؤية أولاده، بينما الآخرون يبنون أحلاماً وممالك في الهواء، باحثين عن الفرح البعيد عن متناول اليد. لذّة عصام كانت في قمّة التواضع، وفي الوقت نفسه، أغنى ما يستطيع المرء الحصول عليه. طاولة في مقهى وأصدقاء.

جمدت الضّحكة على وجوهنا حين قالوا إنه لن يأتي إلى المقهى، تركنا ورحل.

إسمي عصام
“إسمي عصام” هذا أوّل شرط للجلوس مع الصّديق عصام العبدالله. يُجيب أي زائر جديد:”ولكن أنت شاعر كبير واحتراماً لك نناديك بأستاذ، فيجيبه “أبا حازم” إن الاحترام ليس بالضّرورة بالألقاب. التخلّي عن الألقاب والرسميّات، قرّبت عصام من كل زائر، أو ضيف، أو صديق على طاولته، رغم أنه أيضاً كان يرفض أن تُسمّى الطّاولة باسمه، لكنه كان أكثر الروّاد التزاماً بالوقت، الثّامنة تماماً من يرغب بالمرور سيجد عصام موجوداً. من يأتي زائراً من البلاد العربيّة يبحث عن تجمّع للمثقّفين، يجده على طاولة العبدالله؛ وكما قال بكلمته في تكريم عصام العبدالله، الشّاعر الفلسطيني تميم البرغوثي، “جئنا أنا ووالدي (مريد البرغوثي) نبحث عن مكان لنا في بيروت، ضائعين لا نعرف أحداً، وجدنا عصام، أعطانا وطناً ورحل”.

المقهى ملعب الكلمات

لطالما شبّه عصام العبدالله المقهى بملعب الكلمات. هناك من يلعب بالكرة ونحن نلعب بالكلمات.

لن أتحدّث عن قيمته الشعريّة بالشّكل الكلاسيكي، ولست الشّخص المناسب لذلك. سأتحدّث عنه كما هو. هو أكثر من شاعر، هو حال في مدينة بيروت- شارع الحمراء، و”الفرع الصّباحي” مقهى الرّوضة المطلّ على بحر بيروت.

لكن أنا شخصياً ومعظم الوقت، كنت ألتقيه مساءً في الشّارع الذي أكاد لا أتجوّل بغيره في المدينة. شارع يكبو ويصحو؛ هو دائماً شوكة في عين السياسة المحرّضة على الطّائفيّة وعدم التّعايش.

مقاهي الحمراء الثّقافيّة، أُقفلت مقهى بعد آخر، وبدلاً منها فتحت محلات تجاريّة تصفر خالية من الزّبائن والحياة. أصبح عصام وأصدقاؤه كمهجّري الحرب، يتنقّلون من مقهى إلى آخر. كلّما أقفل مقهى، يضحكون ساخرين من أنفسهم، يهزّون رؤوسهم، ويتهجّر معهم روّاد المقهى وزوّارهم الذين يلحقون بهم، ويسألون عنهم أينما حلّوا، وحتى النادلين يستأنسون بطلّتهم اليوميّة ويستفقدونهم إن تأخّروا ولو لدقائق.

(أضعف الإيمان، أن يبقى مقهى يعلّق صورَهم ويُسمّي الطّاولات بأسمائهم كما الدول المحترمة).

شقيّ حتى أواخر السّبعينات
المقهى للمسامرة وثقافة من نوع آخر. في آخر جلساتنا، دخل الشّاعر شوقي بزيع سائلاً عصام عن حاله وكان يعرف بأنه يعاني من توعّك. أخبرنا عصام كيف طلب نزع المصل ليذهب إلى المقهى، ويَعد الطّبيب بأن يكمل العلاج في اليوم التّالي. ينفث سيجارته، فأرمقه منتقدة عمله هذا؛ يُجيبني: “وأنا ليه بطلع من المستشفى يا بابا؟ لإجي عالقهوة دخّن وإشرب قهوة”، أضحك لعبثيّة وشقاوة هذا الصّديق الذي لا أشعر بأنه يكبرني ولا حتى بيوم واحد، وألتذّ بذلك.

تتدفّق القصص التي يخبرنا إيّاها شوقي بزيع، والمقالب التي كان يقوم بها عصام ليُفسد علاقات الأوّل الغراميّة، حين يتلفّظ أمام صديقته بكلمات تثير شكّها.. نضحك كثيراً ويضحك بزيع مُردّداً: لولا تلك المقالب كيف كنّا سنراكم الذّكريات؟

أُعلّق بدوري موجّهة كلامي لعصام العبدالله: طول عمرك شقي ولم تتغيّر.. يضحك بهدوء الولد الذي لم يكبر، مُسلّماً لأمره المفضوح.

صالون الاذاعة ولا أرشيف

هات يا عصام أسمعنا قصيدة. لا يبخل بالاستجابة، فتأتي حسب المناخ، سلسة. يلقي القصيدة باللهجة المحكيّة بشغف، ويلعب بتعابير الصّوت بسهولة، صاحب البرنامج الإذاعي في الإذاعة اللبنانيّة “صالون الاذاعة” وإن سألت الأرشيف الآن لما وجدت تسجيل حلقة واحدة لديهم، وهذا حسبما أخبرني إيّاه في إحدى الجلسات، وحتى برنامجه وحلقاته التلفزيونيّة العديدة أيضاً. يُكمل قصيدته بابتسامة شقيّة:

بِدِّك تْنَامْي تا يِجِيْ لَيْكِ لِمْنَام/ ردّي الْبَرَادِيْ عَيْبْ/ بْتِلْبَقْلِكِ عْيونْ الغَجَرْ/ تِتْفَرّجْ عْلَيْكِي/ رِدّي الْبَرَادِي عَيْب/ حتّى الْقَمَرْ مَمْنُوع/ ممنوع إنّو يِفْتْكِرْ/ هايْ فِضِّتو بِقْيِتْ عَ إيِدَيْكِي.

تجلس إلى جانبه أو بالمقابل منه الروائيّة وصديقة العمر علويّة صبح مبتسمة بهدوء. يطلّ الشّاعر حسن العبدالله، لا يُلقي التحيّة، بل يدخل بأي موضوع آني مباشرة، يبتسم لي عصام ونتغامز على قريبه، الآخر الذي لا يكبر أيضاً، رغم أنني أتّفق معه بأفكار كثيرة، لا تروق لعصام ونتهامس عليه أحياناً، وأضحك حين يقول لي حسن: شو بدّك فيه.

الشوكولا لنقاش لذيذ

أُطلِع من حقيبتي الصّغيرة بعض ألواح الشوكولاتة بالتّدرج كي تستمرّ المفاجأة، وبعد أن يتأكدوا من أنّها سوداء ولن تؤثّر على الصحّة نأكل جميعاً، تطلع تعابير كثيرة، وأعمال فنيّة تُذكر، على طعم الشوكولاتة اللذيذ.

نتحدّث عن فيلم ما، وعصام كان مولّع بالأفلام العالميّة، والوثائقيّة، وكنا نتّفق بذائقتنا الفنيّة.

يتذكّر أحدهم قصيدة، أُسأل عن لوحة ما، أو عن فنّان أرادوا أن أتعمّق أكثر بالتّعريف عنه. كم هو لذيذ أن نتحدّث عن موضوع تشكيلي، مع شعراء مشاكسين، نقوم بالخلطة العجيبة بين التشكيل والشّعر والسّينما والموسيقى ووو.. أنظر إلى تعابير وجه عصام، فأجد علامات الرّضى.

شعراء الجنوب

عصام العبدالله واحد من شعراء الجنوب اللبناني، الذين عُرفوا بهذا اللقب أيّام دراستهم الجامعيّة، أتوا من الجنوب وعلقوا بحب بيروت، ونظموا فيها القصائد، وتمتّعوا بالموهبة والوسامة.

كل منهم له خصوصيّته. محمّد العبدالله الذي سبق عصام برحيله، محمّد علي شمس الدين، شوقي بزيع، جودت فخر الدين، وحسن عبدالله، لنا الحظّ أن نعاصرهم، ونسمع ذكرياتهم. كانوا ناشطين سياسياً وفي الحركة الوطنيّة. عاتبته مرّة، بأنهم هم من كانوا وراء اندلاع الحرب اللبنانيّة (طبعاً أنا مخطئة) لكنه أجابني بهدوء وسخرية لعدم تحقّق الأماني: كنا نطمح للتغيير والعدالة. فشلنا.. لن أطيل هنا، فالمكان لا يتّسع. لكن أسأل نفسي الآن: ونحن لا زلنا نطمح للتغيير والعدالة، إلى أين سنصل؟

يأتي السياسي جبران عريجي على عَجَل، وهو المعروف بثقافته ويقول بحماس: أنتم الجنوبيّون هل تعلمون رجل الدّين الجنوبي الذي غنّت له فيروز أغنيتين؟ ويدور البحث والنقاش وتضارب الآراء، وبعد أن يبحث الروائي رشيد الضعيف، ويستمع الشّاعر عبّاس بيضون، تطلع النتيجة.

نأخذ سلفي، كما كل الناس ونزولاً عند رغبة جبران بلهجته الزغرتاويّة.. وبعد الأدب ندخل في السياسة وحين يحتدّ النّقاش، يتدخّل عصام قائلاً: بيكفي هالقدّ، هون السّاحة للعب والضّحك.

ما بعرفن ما شايفن، لفّوا وجوهن بالقهر

آخر المقاهي التي رحل عنها رفاق عصام بعد رحيله، كان مقهى عليا، الذي أصبح معتماً وشبه مقفل. هناك كانت آخر لقاءاتنا بعصام العبدالله. وقبل أن أختم ثرثرتي، تخطر على بالي أشياء كثيرة كنت أحبّها بعلاقتي بصديقي وأبي الروحي “بابا” كما كان يحلو لي أن أسمّيه أحياناً.

أذكر حين كان يدخل إلى معارضي منتصب القامة وبتواضع الأب، وأبتسم حين يُطلق عليّ أحدهم أيّة صفة بقصد التغزّل، فيردّ عليه: إنّها فنّانة لها لقب. ليس من عادتي أن أدخل الشّخصي في مقالاتي، لكنني اكتشفت أن الشّاعر الذي تركنا، كم كان قريباً.

أقف مكتوفة الأيدي كولد يرفض فكرة الوداع.

“ما بعرفن/ ما شايفن/ لفّوا وجوهن بالقهر/ خبّوا سلاحهم بالوعر/ خبّوا أساميهن/ ما في حدا بيشوفهم إلا إذا ماتوا/ وتعلّقوا متل التّحف/ متل القمر عم ينخطف”.