Scroll to top

ليندا نصار

في مكان ما من هذا العالم القاسي، تتحدث الأخبار عن رحيل أحد أعمدة الشعر المحكي ببيروت، غير أن هذا الخبر كان أشبه بزلزال لما يحتله الراحل الشاعر عصام العبدالله من مكانة داخل المشهد الثقافي اللبناني ليس فقط في إبداعيته التي لا أحد يستطيع أن يشكك في قدرتها على اختراق زمنية معينة، بل في شاعريته داخل حدود الفضاء وخارجه، وفي إنسانيته الرفيعة. هو ذاك الرجل الذي يحمل في قلبه نبضات روح آسرة بالصفاء باعتباره سرًّا من أسرار هذا التوحد مع جمالية الأثر الذي يحدثه في قارئه أو مستمعه كلما شدا قصيدة في مقهى عليا وكومباس في الحمرا، وكان يحدثني عن بوصلة ما يفقدها كلما حنّ إلى بداية القول في لحظات الطفولة التي كانت بالنسبة إليه تحمل ولادات جديدة للمعنى. كان يصرّ دومًا على أن يفتح في المقهى جغرافيات للمعنى المحكي، ويشدو بقصائده في وجه كل العابرين من ضفاف أخرى وكانت الوجوه الغريبة والمألوفة تصرّ أن تصغي إلى ذبذبات صوته أيضًا، وهي تقرأ استعارات عميقة تتطاير فيها معاني الانتماء.

هو شاعر لم يقبل إلّا أن يكون شابًّا دومًا حتى في أقصى لحظات الوهن، وقد انتصر لكل ما يبدعونه بعيدًا عن التصورات الضيقة للعالم. أتذكر هنا جملته عن جغرافيات الكتابة وما يقترن بها من خصائص شكلية كان لا يتوانى في أن يعددها أمامنا حتى أنه أدمن فضاء البحر، وظل يراقبه عن كثب في قصائدنا التي كانت وما تزال تترنح من شرفته إلى درجة ينتفي معها صراع الأجيال. الشاعر الذي غادرنا، وكان يحمل في قلبه عصب المدينة يحرس هواءها، ويمنح بتواضعه لكل الذين يحبون شتائل من حدائقه الشعرية المزهرة. من منا لا يستطيع أن لا يتذكر مقعده الذي صار فارغًا يتيمًا، وفي الوقت نفسه مليئا بصور العبور في روحه التي تسكن كل من أدركه بحرف أو بابتسامة كانت تخرج من غيمات سجائره. من منّا يستطيع أن ينسى تلك النّظرات المتأمّلة في هذا الوجود، وتلك الضّحكة الّتي تهتزّ لحضورها الأمكنة؟

أبو حازم عندما صافحك الموت بحرارة إعلانًا منه بموعد رحيلك، وعلى الرّغم من شدّة الألم، لم تتردّد في إطلاق آخر صرخة تستقبل فيها حياة جديدة. عصام العبدالله المراكب وحيدة تلوح بمناديل الوداع في البحر في مقهى الرّوضة، والقيثارات تعزف ألحانها الحزينة.

من يفتح أبواب المدينة صباح مساء؟ من يعيد للأرصفة صوت خطواتك الهادئة؟ كيف يقولون “الشّعراء لا يموتون” وأنت لم تعد هنا؟

سيبقى صدى حروفك لتلتئم جدران المدينة فتشفى من جرح قديم كنت شاهدًا عليه. وستظلّ أنت المعنى وأنت الروح الّتي تحيي القصيدة. المقهى بشعرائه وكتّابه وفنّانيه ومبدعيه سيظلّ مكسور الخاطر، وفي مكان قريب جدًّا من هذا العالم سنحتفظ بجرح منك اقترفه غيابك. ماذا نقول أيضًا ووسط هذا الكمّ من الحزن الدّمع يقلق حروف القصيدة. عصام العبدالله إلى اللّقاء أيّها الشاعر الحبيب!