Scroll to top

طلال مرتضى

كان عليك أيها الخائن ـ سلفاً ـ أن تكتب وصيّتك لابنك «حازم» قبل سقوط ورقة التهمة من يدك، وينكشف زيف عشقك اللازوردي لها.
حريّ بك لو فعلتها، كأقلّ ضرر أو كحجّة تلوذ بها كي تأمن شرّ الخواتيم. الكلّ يعرفون تماماً أنك غُررت بها عن سابع نيّة، فتحت لها بيوت شِعرك المزركشة بأبهى التصاوير كي تقودها بغنج نحو سرير القريحة الذي لا يعرف من فتنة الحلال والحرام إلا لجم أنفاس جماهير الشعر.
لست أدري يا بيروت المعشوقة، هل أربّت على كتف خيبتك بعد أن غدر بك؟ أم أعزّيك بمصابك الجلل؟
تعالي إليّ أيتها المثكولة مثلي، دعيني ألفّ ذراعي حولك واحتضنك بقوّة، أطوّقك إلى أن نصير أنا وأنت واحداً، لا تستهجني الأمر يا حبيبتي، أليس مصابنا واحد؟ أليس جرحنا واحد؟ أليس وجعنا واحد؟ إذاً تعالي بكلّ براءة روحك لندخل في عناق أثيم يستحمّ طهره من ماء دموعنا.
يتيمة اليوم أنت يا بيروت مثلي، ها أنا أجلس الآن على ضفّة الكتابة في المدينة الفاصلة بصقيعها ـ فيينا ـ وأجهش بالبقاء.
استجدي خرس أصابعي التي جمدت فوق مفاتيح الكلام، وتغرق حنجرتي بماء الكلمات الذي صار غصّة.
يا بيروت البعيدة القريبة، حين يستفيق رهط الرفاق من سكرتهم صباحاً، سوف تسوقهم أقدام الواجب نحو مفازات الملقى، سيتناسى الجميع عن سابق قناعة كلّ اختلافات أوزان الشعر. أنا أدرك يا شريكتي بالفاجعة أنه الوحيد الذي كان يستطيع لمّ شملهم جميعاً، بل كان قسطاس الوصل بينهم. وحدي مثلك سألوذ إلى خلوتي، سأغلق باب غرفتي بهدوء وسأبكي وأبكي إلى ينضب ماء عينيّ.
هنا، ما من أحد يعانقني أو يعزّيني سوى تلك الجدران البائسة التي أطبقت بظلّها الثقيل على صدري.
هنا في مدن المنفى، في المدن الفاصلة، كلّ العناقات باردة، لا عطر لحواسها، حتى أنّ ماء العيون لا ملح فيه.
لا ألومك يا بيروت لو رأيتك تنتفضين لهول الطعنة، لا ألومك لو جززت ضفائرك ندماً بعدما تعرّضت للخيانة من عشيقك. لا ألومك لو أغرق دمعك بحر بيروت وجعل من موجه «تسونامي» جديداً يغسل عنك خيبة الرحيل هذه.
لا تبتئسي يا حبيبتي، فحين قرّر ومن غير إنذار ترك بيت عشقه، ليرتمي وعلى مرأى العيون كلّها في أحضان حبيبته التالية «الخيام»، كان قد أعدّ عدّة الرحيل سلفاً. هذا حال كلّ العاشقين الخونة. كنتِ محطّة بالنسبة إليه، كنتِ حضناً بائداً يلوذه حين يعود من أمسية جلّ جمهورها من المصفّقين النحاة. ما كنتِ إلّا ملاذاً موقّتاً، أيقنت الآن وآمنت بمقولة أحمد شوقي الكبير حين قال:
نقّل فؤادك حيث شئت من الهوى
ما الحبّ إلا للحبيب الأوّل.
قد فعلها يا شريكتي في الحزن. وها هو قد عاد متخفّفاً من عشقك الأبيض إلى مفازه الأوّل.
يا بيروت، آن آوان فتح دفاتر الحساب. تعالي نسمّي الأشياء بأسمائها، وماذا بعد أن سقطت ورقة التوت وبانت عورة الحكاية؟
يتيمة أنت يا بيروت اليوم!
بارد أنت وصلف يا شارع الحمرا!
بائسة كلّ المقاهي وباهتة التي سجّل فيها الخائن حضور الغياب!
من الآن فصاعداً أيها الخائن، لا نِصاب مكتملاً لجلسة «مقهى الروضة» اليومية. من الآن فصاعداً سيرفع نادلوها عن ظهر الطاولة اليتيمة القطعة البلاستيكية التي نقش على متنها وبخطّ سيّئ… «محجوز».
لا ألومهم يا سيّدي، لم يعد للكلمة قيمة بعد فوضاك العارمة التي تركتها وغادرت من دون التفاتة.
يا بيروت، مثلنا هي المقاهي البيروتية كلّها قد وقع عليها إثم اليتم، حتى أماسي الشعر ستفتقر إلى كلمة «حلووو»، حين تعبر صورة شعرية آسرة على حين غرّة، من لدن قصيدة لشاعر ركب توّاً عتلة الكتابة، متأكد أن شاعرها سيمتلئ غروراً وزهوّاً بعد حصوله على سمة مبدع. كلمة «حلووو» وحدها كانت ميزان اكتمال هبة الشعر عند هذا الشاعر، وربما يميل نحو اليمين ليهمس في أذن مجانبه: «هيدا عندو شي».
ولأنّ الرجال قوّامون على النساء، قد طُعنت خاصرة بيروت بغيابك، لا ألومك، يحقّ للشاعر ما لا يحقّ له من جوازات خلخلة الوزن، لهذا كان الغياب بالنسبة إليك سهلاً، سلساً، بارداً.
حين طبعت روايتي الأخيرة «كمين» قبل أربعة شهور، ودوّنت على صفحتها الأولى تحت كلمة الإهداء: «إلى عصام العبد الله الذي أوقعني بكمينه… لا كي أؤمن بل لأسمو». لم يكن هذا حباً بك أو ديناً عليَّ آن وقت سداده، أبداً أيها الخائن، فقط كانت جمرة شوق تكوي مهجتي وناقوس خطر يدن في حواسي كلها يقول: لن ترى الرجل ثانية.
لن أحزن على حزن بيروت يا عصام. قسماً لن أذرف دمعة معها، كلّ الكلمات التي كتبتها في أعلى المقال بدعة. كلّ المدن النساء عاهرات، لم تحفظ ودّ الرجال، المدن النساء لا تعرف إلا من ينام في كنفها وابن لحظتها وقت المضاجعة.
ها هي دمشق الغنوج من دون أي رادع دلفت بنا نحو بحور المدن الفاصلة، جعلت منّا زاداً مكيناً لـ«قرش» المحيطات. إلا من كتب له حبر النجاة مثلي، ينام الآن على وجع الغربة وأنينها ويتدثّر في ثلج عزلتها.
وأنت كذلك يا بيروت لم تحفظي ظهر الرجال يوماً.
كنت مستعجلاً حين أنزلوني من سلّم الطائرة، كان الشوق يلتهم فرحي. قلت في سرّي: هي ساعات فقط… وتصير كمين بيد عصام العبد الله، أقسم أني لم أبتغِ للحظة وحيدة منه، كلمة «حلوووو» تلك.. فقط كانت تسوقني إليه تفاصيل عناق رهيب..
الكلّ متأمرون، هنا في مطار فيينا، وهناك في دوائر الأمن العام البيروتية، حين أخبرتني موظّفة الجوازات: ثمة خطأ ما في سمة دخولك إلى بيروت.
لم أختنق يوماً بغصّة مثلما رأيتني وأنا أجرّ ورائي خيبة الحقائب مثل إله منكسر نزل من ملكوته العاجي. أقسم ولشدّة لهفتي لك يا بيروت، لم أنتبه للخطأ الذي تركه موظّف جوازات بيروت حين نقش «الفيزا». عدت، وقد جفّت الدموع في عينيّ، كم تمنّيت أن أذرفها كي لا تبقى مثل جرعة سمّ.
لا معنى لـ«كمين» الآن بعد هذا الوداع. لم تعد كميناً بمعنى كمين. خذلتني يا عصام مثل بيروت، حين لم تنتظر كي نفكّ معاً سرّ الكمين الذي نصبته لك، إنها فطنتك اللئيمة، لكن كان بودّي سؤالك كيف ارتضيت هذا الخنوع، كيف سلّمت قيادتك لمليك الموت؟
رحل عصام العبد الله، ولم يبقَ من إرث الحكاية سوى «مقام الصوت»
مات عصام العبد الله، لكن عصافير جبل عامل ستستفيق مبكراً وتعتلي صور القصيدة. وحدها قصيدة «كمين» ستبقى سرّاً على مدّ الحياة. لا ضير أيها الكبير، الأب والأخ والصديق إن بدأت ترديدها من الآن إلى قيام الساعة بقلبك.