Scroll to top

فلاح ابو جودة

عرّفني الى الشاعر عصام العبدالله عمّي المرحوم الصحافيّ ميشال أبوجوده . وكانا يشربان القهوة معًا صباحًا في مقاهي شارع الحمرا ويتبادلان الأحاديث المتنوّعة ، ثم ينتقلان مع غيرهما الى مكتب ميشال أبوجوده في الطابق السادس من مبنى جريدة “النهار” حيث ينعقد الصالون السياسي الأشهر في بيروت في النصف الثاني من القرن العشرين .
وكان عمّي يحمل اليّ أحيانًا أشعار عصام العبدالله على شكل قصاصات من الصحف والمجلّات ، إلّا أن الهديّة الأكبر كانت كتابه “قهوة مرة” عام ١٩٨٢ ومعه كاسيت لونها برتقالي يقرأ فيها عصام من شعره مع مرافقة موسيقيّة لزياد الرحباني . وظلّت هذه الكاسيت رفيقتي في السيّارة وفي فترة سفري لسنوات طويلة تقمّصت فيها شعر عصام وطريقته في الإلقاء إلّا أن صوتي لم يكن يشبه صوته الجهوريّ ولهجتي لم تكن كلهجة أهل الخيام المحبّبة . ولا زلت أذكر قصيدته “سفر التكوين ” حيث يصف فيها مراحل التكوين فيقول : “طلع السمك عالبرّ يتشمّس” . و يوم قرأتها – وكانت مادة الانتروبولوجيا التي درستها في فرنسا لا زالت متخمّرة في رأسي – عاجلت عمّي وقلت له : كان عليه أن يقول : “طلع السمك عالبرّ يتنفّس” ، فأعظم تطوّر حصل في حركة التكوين هو تحوّل الجهاز التنفسي من خياشيمي الى رئوي . فحملها عمّي “طازة ” الى عصام الذي أعجب بها . ويوم دفن عمّي ، جلس عصام قربي في منزلنا في الزلقا وقال لي : طلع السمك عالبرّ يتنفّس!! . وفي سياق الحديث قلت له : “شعرك مهمّ بس فيك شي أهمّ من شعرك ” فنظر اليّ متسائلًا وقال لي “ما هو؟” . فقلت له : “أهم شي فيك صوتك” . فهزّ رأسه مستغربًا . وفي كتابي ” على سيرة النوم ” لم أجد في وصف الغيبوبة أروع من وصف عصام العبدالله لعاصي الرحباني على سرير المرض في قصيدة “سطر النمل ” : “حطّ القلم عالطاولة ،حطّ الورق ، حطّ ايدو حدّهن ، راسو متل شي مملكي ومطفيّة ، قبالو الأوضة واضحة الشباك ،صوت المرا ، ولادو مْأكّد مرق منصور ع بالو ، بينو وبين الباب في فشخة،بينو وبين خيالو !” وكانت الصُّوَر في شعر عصام العبدالله غير مفتعلة رغم غرابتها : “ونسوان متل الكستنا بيحلو إذا نامو على تخت الجمربيحلو وبيصيرو عسلمتل البلح بينام ، بيفيق الصبح صاير تمر …”
أو حين قال عن مدينة صور :
“هاي صور
جبّة وعمامة وناس من بخّور
ما تصدّقو
شايف ضَهَر قرصان
اللي استغربو وعم يسألو وينو
يمكن عم يفتّش على عينو …”
ويوم استقبل زاهي وهبي الشاعر سعيد عقل في برنامجه، راح يعرض عليه اسماء شعراء وكان على سعيد أن يبدي رأيه بكل شاعر بكلمة واحدة : ولمّا جاء دور عصام العبدالله قال : “شعرو بيشبه الله “. فاستغرب زاهي وهبي وظن أنه لم يسمع جيّدًا وأعاد عليه السؤال فسمع الجواب نفسه.
مات عصام العبدالله وظلّ شعره حبرًا وصوتًا، و لهجةً جنوبيّة محبّبة تتردّد بين السطور وتكحّل الكلمات :
“مش سامعك ،
بدّن وقت ت يسكتو
ووقتَك معَك “