قبل أيام قليلة من دخوله المشفى، التقيته في مقهى «كاريبو» في شارع الحمرا. كان يبدو عليه التعب، فسألته إن كان يريد فنجان قهوة، فأجابني بلهجته الجنوبية المكحلة ببيروتية ساخرة: «أكيد مش رز بحليب».
كان، خلافاً لتوجيهات الأطباء، يدخن ولا يأبه لنذر الخطر القادم، كعادته أن لا ينظر لأهوال الحياة التي لجمها بالشعر والسخرية والهزل واللعب بين الشوارع والمقاهي..
كان عصام يقول إنه يجب الصعود إلى القصيدة. الشعر طلوع برأيه، وهكذا صعد إلى العتبة الأخيرة من الحياة، ناثراً القصيدة المحكية عقداً من لؤلؤ الكلام وأصفاه.
الشاعر الذي هتف في شبابه لبيروت عاصمة عربية الهوية والانتماء، أسكنها قصيدته، وفتح روحه لبحرها وأحيائها وناسها، وكان البعض يشاهده فجراً، نازلاً من مكان سكنه في الطريق الجديدة إلى مقهى «الروضة» البحري، كأنه حارس الصبح والبحر.
راح عصام يقلب في هندسة المحكي ناسجاً شخصية متميزة في معبد الشعر إلى جانب الكبار، حتى نال لفتة احترام من الكبار وأولهم الشاعر الراحل سعيد عقل.
لم يكن شاعر سوق ولا منبر ولا مناسبات، لكنه لم يخيّب متذوقي الشعر، فالقصيدة عنده تتفتح كلما أيقن أن السامع يرتوي، فيزيد من مشاغلة الفكرة بلغة أليفة يلمع فيها الإيقاع الداخلي كالأرجوان.
عصام شاعر اخترع للمدينة لغة، ومن اللغة اخترع مدينته ولاعبها غزلاً وعتباً من حيث لا يتوقعه «جن الحكي»، ومن لحمه كسى شوارع بيروت ومقاهيها ولم يخن عهده لها رغم الخيانات الكثيرة.
كان عصام العبد الله شاعراً يؤلّف الكلام الحلو والعميق، بتلقائية عمّقتها تجربته كمثقّف وابن بلد. كان يلعب بالمحكيّة كما تلعب الريح ببحر بيروت، فيستخرج منها المعنى مجبولاً بإشراقات الولادة.
استثنائية شخصية عصام العبد الله تنبع من ثقافته العميقة وارتباطه بالتراث الشعري العربي، منذ الجاهلية حتى القرن العشرين. لم تأسره القواعد والشروط. حرّيته قادته إلى النفاذ من سحر اللغة المحكية إلى رحاب الشعر، ليبني عبر السنوات مرجله الخاص في التعبير والأسلوب.
ثقيل غياب رجل من هذا النوع. ثقيل علينا نحن من أهله وأصدقائه الذين نعرف صوته ولهجته وضحكته المجلجلة. ثقيل غيابه على بيروت، لا بل أعتقد أن رحيله يمثّل ندبة على وجه المدينة كما هي الندوب الأخرى التي تركها شعراء غادروا قبله مثل محمد العبد الله وجوزف حرب وأنسي الحاج وعصام محفوظ وغيرهم ممّن تصبح الحياة حالكة من دونهم.
عصام ترك مقعده في المقهى، تركنا ومشى إلى مملكته ..