Scroll to top

إلى سعيد عقل

النهر

انحنى النهر الواقف، انحنى عمود الشعر ثم استلقى وتمدّد. كان يسقي الغمام والآن دور البساتين. نهر الكلام المتدفق الأنيق، مهندس الطريق إلى اللغة وإلى المعنى.
هبطت المخيّلة العالية حيث كانت تستكشف الجغرافيا الخفية للغة وتصل إلى المبتكر من العبارات والجمل والإيقاعات.
هدأت يد الإضافة التي ظلت تضيء لأنها الإضافة. بقي قديماً وحديثاً لأنه اصطفى الإضافة وأشعل مصابيح جديدة علقها على كتف الزمان فإذا مرت في العتمة كلمة تكون قناديله الدليل.
لم يكن قديماً ولا كان حديثاً، كان شاعراً للزمان، من يدلني على طرف الزمان لأضع خطاً بين القديم والجديد.
مَددوا النهر الذي قامته مئة عام، لِتخرج الصبايا بنات الشعراء وقصائدهم، ليخرجن إلى الشرفات يودعن المعلّم الذي كان يبني لهن الهيكل المتعاظم للشعر.
بنى سعيد عقل للشعر والشعراء معابد من ذهب الكلام، وفخامته وجزالته، بنى لهم القصور المتينة بالفصحى. ثم انتبه فبنى لهم أيضاً «فيللات» مشمسة من زجاج وضوء وأقام لهم مسبحاً حتى إذا ألحّ جمر اللغة غطسوا ليبترد الكلام وليهب النسيم، هذا في المحكية حيث وصل إلى حد الغناء.
له عليّ أفضال جمة:
أولاً لأنني عاصرته وأدعو الشعراء لأن يعترفوا بفخر انهم مواطنون في مملكة سعيد عقل، وله عليّ فضل المحبة حيث الكلمة قلب ويد ولسان. له عليّ القصيدة التي طالما خفت أن أكتبها ولكن هذا السيد المبالغ في المحبة قد يساعدني.

سكن بيت الشعر ولم يكن له بيت

كنت أنتظر هذا الخبر وكنت أخاف منه، ليس سهلا ان يغيب سعيد عقل عن زمن نحن ما زلنا فيه . أحس أنني كنت أستند الى جبل من الكلام الجميل . الان أنا في العراء المطلق ولكن ثمة أبيات وثمة قصائد وثمة مواقف لسعيد عقل ستظل تمتن الذاكرة وتحاول أن تعيد الينا مصفى شابا وأبا جميلا. سعيد عقل معلمي وأستاذي وصديقي الكبير وأنا بريت قلمي على سنديانته وعلى قامته وتعلمت الثلج من شعره وتعلمت البحر من عينيه . قامة رائعة من القيم ومن المواقف التي لم يكن يتنازل عليها ابدا مهما نازعه عليها المنازعون. سكن سعيد عقل في بيت الشعر ولم يكن له بيت . حتى الان ليس لسعيد عقل بيت . وكان متأكدا بأن بيوت الناس هي بيته وان قلوب الناس هي قلبه ولكنه كان يختلف معهم حول الهواء الذي كان يتنشقه. أحبه جدا. في هذه العجالة، يحلو لي أن يعيدني سعيد عقل ربما الى الكتابة .

من سنوات لم أكتب. هل يكون هذا الرحيل وهذا الاحتفال حافزا لي لأعود الى الشعر ؟
انها قصيدته التي سأكتبها هي التي ستعيدني الى فضائي الشعري وعذابه.

أصعد إليه ولا درج

لا تلتفت لتراه. لتراه إصعد إليه. إصعد إليه ولا درج. أنت وهمّتك، أنت وذكاؤك، أنت ومخيلتك إصعد إليه ولا درج.
النهر الواقف كالقصيدة الواقفة، القصيدة العمودية أم الشعر وذهب الرمل وماء الحديقة. إصعد إليه. سترى رجلاً من بياض النوايا وجهه زهر يكاد أن يتفتح وعلى رأسه تحوم غيمة بيضاء ولا مطر والشجر في عينيه كأنه بعد شتوة منفعلة. يلمع تحت شمس قريبة.
سلطان على الكلام تحف به صبايا اللغة بكامل الأناقة. ثياب من مجاز وجمال من استعاره، والبلاغة كلها تحمل شفقاً من الزهر تنثره على العابرين.
أدعي أنني صعدت إليه وانفتحت أمامي جغرافيا الشعر. ودلني على الركائز الأساسية التي يقوم عليها الجمال. دلني على ما قدمه هو إلى الجمال. تفرجت على الخفي اللماح الذي تبتكره المخيلة الفوّارة. تفرجت على اللغة كيف تصير ولودة وكيف ترق وكيف تلين وكيف تغضب.
من يصعد معي إليه؟ لنرى معاً كلنا كيف أن اللغة تبني قصراً وكاتدرائية وقلعة ثم في المحكية تنقط من أصابعه البيوت الزجاج الواسعة، الفلل الحديثة المشمسة، بنبالة الفرسان القدماء يعمر سعيد عقل قلعته وحصنه، ثم كما يدلف العشاق إلى المخابئ في الحدائق، يميل إلى المحكية الرائعة.
سنرى إذا صعدنا إليه حبراً كثيراً ونثراً كثيراً. فهو قد كتب في أكثر من نوع من الأدب، سنرى كتبه تسقط على الناس كالخبر الجميل تتناقله الناس من زمن إلى زمن.
نصعد إليه فتدهشنا القامة التي ارتفاعها مئة عام. كأنه يلعب بالسحاب. من يقدر أن يحفر قبراً لجسد طوله مئة عام. ذهبت إلى ضريحه وفتنني رودي رحمه بالنحت الجميل المدهش. ولكن هذا ليس ضريح الأستاذ سعيد يا رودي. هذه ثيابه في التراب. البدلة الرمادية وربطة العنق الحمراء. إنها ثيابه بينما هو فأظن بأنه في المكان.
المكان حيث يخبط الله وحيداً وقد تكاثرت عليه العقول قائدة الظنون. أما الشعر فبالكاد يبين لذلك يمسك الله بكتاب الشعر ويقرأ.
ثمة شعراء موهوبون وخلاقون يقرأ لهم الله.