Scroll to top

صولد

كان يتسلق رجليه، ثم يمشي، وكان يتلطى خلف عينيه، ثم يرى، وكان يقيم في ثيابه الشاسعة.
للمدينة الشتوية ملامح العجائز التصابيات. مدهونة بالواجهات على خواء عاجز. وكان كلما ارتكب الشوارع، وكلما اطلقها من حذائه، يكرر تكراره المميت.
تلفته الواجهات الخادعة. تلفته الزينة المفتعلة. كلمتان كانتا تترددان على زجاج الواجهات، باللاتينية المزركشة، وبقليل من العربية الأنيقة. “أوكازيون”.
“صولد” “Solde” “Occasio” لم يكن يعرف لماذا كانت تدب فيه الغيرة كلما وقف أمام واجهة مزينة بهاتين الكلمتين. ولم يكن يعرف لماذا. أمام واجهات الثياب، كان يشاهد. قامته تدخل في الزجاج وترتدي كل ما تعرضه الواجهة، وكان يبدو كالبهلول وهو مغطى بالثياب. ويظن أنه يبدو كالمهرج أيضاً. أمام واجهات الأحذية، كان يبحلق في حذاء على حدة، فيرى وجهه في الزجاج. تصير الواجهة مرآة وتشف. ثم تتطابق صورة الوجه مع صورة الحذاء، ويتداخلان. لم ير قدمه في الحذاء، رأى صورته فيه فضحك للمناسبة اللطيفة. مع ذلك ان ما زال يحس بأنه يغار. ودون أن يبحث طويلاً لماذا يغار ومن أين تأتيه الغيرة، قرر أن يحسم الأمر وأن يقيم واجهة، ويعرض فيها أشياءه، ويكتب على زجاجها كلمتي: “صولد” و “أوكازيون”، على أساس أن لا أحد أحسن من أحد.
فكر قليلاً في أشيائه التي سيمدها للعرض. هل تكون ثياباً عتيقة وأحذية عتيقة وبقايا الركام؟
بسرعة قرر أن يعرض الكلام. وأن يحدث تخفيضات ملحوظة. فلماذا لا يقف على شرفة منزله، ويكون الطقس شمساً. ثم يثبت حبلاً من الجهة الغربية الى الجهة الشرقية. يقف هو وراء الحبل. يحضر قبلا ملاقط الغسيل، ثم ينشر الكلام على الحبل ويلقط الجمل المتدلية بملاقط الغسيل. ماذا علق على الحبل، ماذا يعلق على الحبل، والكلام كثير والجمل في رأسه تتزاحم، والكتب على رفوف المكتبة كأنها مرمية في مصح.
وقرر أن يبدأ بالوطن، أمسك الكلمة وعلقها ولقطها جيداً وحركها قليلاً. أحضر “لمبة” ووجهها نحو الوطن، فأضاءت الكلمة، حتى ليراها البعيد البعيد، انيرت كلمة الوطن وتدلت. ثم كررها على الحبل مرات فصار لها شكل ملفت وجميل. ثم وقف وصرخ، ثم صرخ كثيراً، ثم حمل لافتة تشير الى الصولد، والأوكازيون والتنزيلات الضخمة. وسمعه الجيران يقول كلاماً مبهماً عن الوطن والأخضر والأحمر والعظيم والباقي والبحر والجبل. وسمعه الجيران أيضاً يهم بالبكاء ولا يبكي. وكان يرى من على الشرفة الناس تنظر اليه والى الحبل الذي تتدلى منه كلمة الوطن المكررة، ثم يضحكون ويمضون. بعضهم كان يشير إليه باليد ويهز رأسه آسفاً، هل يأسفون له كأنه جن، أم يأسفون للوطن المعلق على حبل على شرفة في مدينة تذكر بالعجائز المتصابيات؟!