Scroll to top

شقة في الوطن

لم يكن أحد يظن بأن البناية ستبقى. كان الطيران الإسرائيلي يصوب على البنايات ومن فيها. كان يقصف عاصمة فلسطين المؤقتة، ويهدمها حجراً حجراً. وبنايته البناية التي يقطن فيها، كانت موجودة بالصدفة في قلب عاصمة فلسطين المؤقتة ي منطقة جامعة بيروت العربية.
بعيداً كان يتساقط أخبار البناية. وكان كلما أشتد القصف في الإذاعات، كان يتخيل بيته في البناية. ثيابه وسريره وصورته المعلقة على رف المكتبة. كان يرى البيت يتناثر أو يتحلل. صوته العالي الذي يطوف في الغرف. تخيله نباحاً متصلاً يشبه جوع الكلاب. وكان يسمع من بعيد تكسر أفكاره وأقلامه كأن ثمة انهيار بحجم الكون.
لم يكن أحد يظن بأن البناية ستبقى.
مرة شاهدها واقفة في الجريدة ولم يصدق. جمع العائلة وناقشوا جميعاً الصورة وقرروا بأنها صورة بنايتهم، وأن بيتهم لم يزل واقفاً وأنهم عائدون ليناموا ليس كالغرباء او الهاربين.
ثم عادوا. هذه هي البناية. ورمادية من دخان الكلام ودخان الحروب. واقفة بجروحها الشاهقة شاهداً ومبشراً ونذيراً.
وبدأت ورشة العمل، عادت العائلات والأهل والأصدقاء. عادوا. وقفوا أمام البناية وتعلقت عيونهم، كل في شقته. بدأت ورشة العمل. بدأ تنظيف الشقق من بقايا الأثاث وبقايا القديم المحترق والمتناثر. في الثياب، أو ما تبقى منها زجاج، وفي الكتب شظايا، والصورة المعلقة على رف المكتبة أصيبت في الوسط فاهتز الشخص ومال.
أول ما لفته “الجارور”. مستودعه الصغير. أمين أسراره البسيطة وبعض كتاباته. وجده مفضوحاً كأن لم يعد مكان للسر. كأن انكشف الباطن على الظاهر، المستور على المعلن، كأن اختلط الرمل بالماء فأزهر شجر الجنون.
رتبوا بيوتهم بما تيسر. أقاموا جداراً هنا ورمموا جداراً هناك. بلطوا وورقوا ودهنوا، وما كان يسمع في البناية إلا أصوات الورشة الناشطة. كان الدرج مهلهلاً، والمصعد ميتاً، والمجاري تنز هنا وهناك كجروح عفنة.
من يعتني بالبناية. بالدرج والمصعد والمجرور والمدخل والسطح والخزانات وسواها.
كان ينصرف الى شقته ويصل حتى مشكلة الديكور، بينما البناية متعبة تحمل شققاً مرممة ومزينة وشققاً منغلقة وأبواباً تظل مقفلة وراءها ناس تعرفهم ولا تعرفهم.
لم يكن ممكناً الاجماع على اصلاح البناية. لم يكن ممكنا سماع الصوت الذي يقول، ما نفع الشقة المرتبة في بناية متعبة وكيف نصعد الى شققنا دون درج أو مصعد وكيف نعلق بيوتنا على شجرة يابسة ومعرضة.
كان الرجل يستغرب حتى الدهشة عدم تجاوب سكان البناية، وعدم اهتمامهم بشأن البناية العام. ولكنه كان يستدرك في كل مرة دهشته ويرجعها الى القلب.
عندما كان ينظر في السياسة وفي الوطن كان يرى البناية أيضاً.
كانت الطوائف ترتب شققها هي أيضاً وتنسى أن الطائفة في الوطن كالشقة في البناية. لا يستطيع أحد أن يسكنها إذا كان الدرج مخلعاً والمصعد معطلاً والمجاري تقول كلاماً عن البناية ومن