Scroll to top

في الاكسبرس

مقهى “جواني” تدخل اليد والى نفسك والى الأصدقاء على ندرتهم!
منذ الحرب، أنتي ما زلت تهتد كأفعى اسطورية، تغيرت وجوه الناس ووجوه المحلات وجغرافية الحركة.
إنها الحرب التي حولت الروشة الى مرفأ مهجور، تسرح فيه غربان بلحى وقورة وضمائر متمسحة.
كراسي “الدولتشه فيتا” هرمة ووحيدة كعجائز الحكايات. طاولة الحاج زهير السعداوي وجمعية “الندمان”: ذو الفقار قبيسي وفريد وفريد الخطيب ومصطفى الجندي وغيرهم. شوشو بشاربيه اللذين يصلان حتى الموج، يضحك “ويشتري” أفكاراً من عبقري متسول…
فريد الأطرش وطاولته النظيفة جداً، والتي كلما اتسخت عليها منافض السجائر يقوم ويستبدلها بنفسه كإحدى العادات التي يعرفها جيداً المقربون منه…
عماد حمدي عندما يكون في بيروت فهو في “الدولتشه فيتا” مع زوجته السابقة ناديا الجندي وحوله الأصدقاء وضحك يستمر حتى الصباح.
فؤاد المهندس وصلاح أبو سيف واللهجة المصرية الأليفة الى القلب تشعل قناديل السهر. “الدبلومات” حيث كان “تركيب المقلة” السياسي على قدم وساق، وحيث كان الكولونيل ببقايا شعر مملس و”بيستون” كأنه عصا مزورة لتلك التي يحملها كبار العسكريين. “الدبلومات” تحولت اليوم الى قن للدجاج المحمر والحمص المتبل بعد ان ضاقت ذرعاً بالهجر…
“دبيبو” و”نصر” و”الغلاييني” الذي غير اسمه وجلده وتحول الى مقهى معدني على الطريقة الغربية، بعد أن كان أرغنا مشرقيا تنبعث منه كركرة النراجيل وكركرة الأحاديث، وغناء البحر المكشوف في هواء طلق وشجر اليف.
نعود لشارع الحمرا، وارث مساحة البرج بكفاءة، لقد أصيب بالحرب بدوره هو أيضاً، خابت المقاهي وتحولت الى دكاكين تبيع الطعام والأحذية وتغري اللصوص.
منح الدبغي صاحب “الهورس شو” كان يجلس في الزاوية ويحسب وقت الزبائن، فلان طلب قهوة وجلس ساعة، العملية خسارة بخسارة، فنجان القهوة ربع ساعة فقط.
نضال الأشقر تلعب “مجلون” في “الهورس شو” بعد أن منعتها الرقابة من لعبها على المسرح.
انقلب “الهورس شو” الى “أبو نواس” و”الالدورادو، صارت دكاكين فيما “ستراند” ما زالت تفتش عن هوية، أما “الكونغرس” فانتحرت من كثرة الانتظار.
اين يذهب أذن الذين يجدون وقتا كافيا ومالا كافيا للتأمل والكلام؟
يفتشون عن مقهى آخر: “إذا مات منا سيد قام سيد”
إلى “الاكسبرس” إذن، تحت بنك وفوق صالة سينما، وله ملامح الملجأ، يحمي جيداً وفي نقطة في أول الحمرا، كأننا نبدأ من جديد.
في “الاكسبرس”، أنت بعيد عن الرصيف حيث يفترض ان تنزه عينيك على أجساد الصبايا، تمر على إيقاع حضاري مثير، مسجونة حتى الانفجار في “الجينز” الضيق الشهي.
“الاكسبرس” مقهى “جواني”. تدخل اليه والى نفسك والى الأصدقاء، على ندرتهم، يطردك الخارج المرعب كصوص “مقطوع” لا يستند الى احد ويستند الى الهواء.
وهو الجريدة الشفهية التي تطبع كل ساعة عدد، وهو المطار الذي يعلن عن وصول فلان أو علان. من الطائرة الى الفندق او المنزل، ثم الى “الاكسبرس” وبسرعة تنتشر الاشاعة: وصل فلان ثم يبدأ “تركيب المقلة”…
الثنائي المستحيل: مطربان وصديقان، عصام رجي وملحم بركات، يكونان خارج لبنان عندما لا يكونان في “الاكسبرس”.
نضال الأشقر أيضاً مع أنها ليست كثيرة الترداد. تشاهد أحياناً صباح الجزائري عندما تكون في بيروت.
رشيد علام وغسان مطر الى طاولة وجيه رضوان والأخوين عشي.
شوقي خيرالله بدأ يكثر من الترداد في الفترة الصباحية والدكتوران ميشال سليمان المقيم وميشال عاصي الزائر. الدكتور مصطفى الحلاج كمعلم هندي تسعده الحكمة الهادئة.
إبراهيم مرعشلي ودود وصديق للجميع، بدون طاولة خاصة. فله كل الطاولات.
عمر الشماع وحيد ومعظم الأحيان كأنه يقرأ بعينين حياديتين.
علي الخليل وناجي شامل وفهد العبدالله والدكتور عادل فاخوري “تكنولوجي” الثقافة معلم وصديق.
أحياناً كميل منسى على الغداء. والغداء في “الاكسبرس” مغامرة محفوفة بالمخاطر قد تنتهي بك الى الإفلاس.
المسافة خطوة بين جريدة “النهار” و”الاكسبرس”. لذاك فجماعة “النهار” حاضرون ناضرون. ونزيه خاطر حاضر بهدوء ملفت للنظر، وبول شاوول يشرب بعينيه ويكتب ويظل شبه وحيد.
نبدأ الفترة الصباحية في “الاكسبرس” ثم على حد الظهيرة، “يكشك” “الميتر” فهذا وقت الغداء. ويضع أمامك صحون تقول لك: كل أو إذهب، … أحياناً فيخجلون منك يبتسمون. على طرف النهار، وفي وقت بلون الرماد تبدأ الفترة التعيد التي تشهد حشداً من الزبائن.
النساء في آخر زينة، وتمشي الواحدة منهن كأنها تستفزك.
تكمن في موقع يكشف المقهى وسر عينيك فتصيب هنا او هناك. رقي في السلوك وبدائية في العينين. ولو افترضنا ان الناس في “الاكسبرس” تفكر بصوت مرتفع لكنا نشهد يومياً مسرحاً ناطقاً ولكنه في جميع الأحوال مسرح، وهو في سكوته ربما يكون أكثر إثارة.
وفي أول الليل يقفر “الاكسبرس”. يلتهم ساعتين على الحد الفاصل بين الليل والنهار ثم يتفرق الناس كل الى ثقب في جدار الحرب حيث يختبئ حتى صباح المفاجآت.