Scroll to top

أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام

وقف عربي
ماذا لو ادعيت أن لي جيشي من الأيام، وأنني أقود أيامي في حملة لفتح المستقبل؟ وماذا لو اعترفت بان حملتي تعثرت وصرت من الخاسرين ؟
ماذا يفعل القائد في الوقت الصعب والشديد؟ في اليابان كانوا ينتحرون كأجمل ما يكون المهزومون. اما نحن، أما انا، فأقف متعبا يتقدمني خبري وأعطي للعسكر امر اليوم بصوت كأنه الأخير، الى الوراء در ، الى الوراء سر . تتقدم أيامي الى الوراء حوالي نصف قرن ثم تضري خيامها لترتاح ويخطر لها أن تغني فتغني .
أبشع انواع الحرية، حرية الجيش المهزوم، حرية أن يغني الجيش المهزوم، كل على هواه، وكل على ليلاه، كما هي اليوم حالتنا بالرغم من الضربة الفتانة التي وجهها لبنان المقاوم .
تواطأنا جميعا على ان يكون لغنائنا في خيمة الأونيسكو في بيروت لذعة الغناء المكسور. الغناء الذي رجعنا نصف قرن لنلتقيه. كأنه يصعد الينا من قعر سحيق او هو ينزل الينا وعلينا من علو يشبه النسيان .
الشاعر المعلم احمد فؤاد نجم وصناجة الأغنية الانسانية المهمومة المرحوم الشيخ إمام .
أقول الغناء المكسور. واقصد ان هذا النوع من الغناء يكسرقاعدة ثمينة في الغناء وهي الصوت والموسيقى. فلا صوت الشيخ إمام كان عبقريا ولا تلحينه ايضا قياسا على مقام الاصوات ومقام الموسيقى في ذلك الوقت .
الشعر هو الرافعة الأساسية لهذا النوع من الغناء . لذلك هو غناء مكسور . فعندما يصير الشعر، الكلام، المعنى، الصورة هي الأساس، ينكسر الغناء كطرب وسلطنة وطيران وتغريد . يصير الغناء عندها صوت الجموع ، الصوت الذكي المدرب الذي يقود حركة الجموع في نشيد عن الحياة وللحياة .
هجمنا في بيروت عليهما معا. انتشرا بواسطة التهريب. أفضل وسيلة للانتشار هي الخفاء والتهريب. صارت كاستات الشيخ إمام تعويذة في البيوت تساعد على قيامة الجسد المحني من كثرة ما انهالت عليه الظنون .

مهما حاولنا ان نفرق بينهما… مهما اختلفنا في الحياة أو في الموت … مهما صار او سوف يصير ، فالمحاولة فاشلة ، نكون كمن يقسم إرثا ليس له . وكنت ما زلت انتبه للكلام الذي يغنى أكثر مما انتبه للصوت والموسيقى. واعترف بأنني كنت دائما انبه لتقدم اسم الشيخ امام على الشاعر نجم ، وأعتبر الأمر مفارقة مضحكة .
الذين يعرفون مصر، الذين قرأوا نجيب محفوظ وتابعوا السينما المصرية والأغنية المصرية، سرعان ما تفاهموا مع الشاعر نجم وأحبوه كمصراوي حقيقي: فقير ونبيل، ذكي وساخر، سليط كأن هي لسعة العسل .
عندكا كنا نسمع أخباره في السجن أو خالرج السجن ، كانت تنتابنا، تنتابني ، صور للشعراء الصعاليك يسرجون خيلهم في الخفاء ويغيرون على الأخلاق العامة وينهبون مخيلة المقهورين .
كان يدهشني ان يصدر بلاغ عن السلطة يعلت أنه ألقى القبض على الشعر . كأن أحمد فؤاد نجم يرمي بالرمح الذي اسمه الشعر موضعا حميما في قامة السلطة القادرة .
رماح ونبال يضرب بالسيف اذا اقتربت الجريمة، وهو نشيد المغامرة التي أجمل ما فيها انها تصدق أحلامها .
كان عجيبا ان يمر كل هذا الوقت ولا يزور الشاعر نجم بيروت . كان عجيبا ألا توجه له دعوة، نادرا ما رأينا له صورة في الصحافة اللبنانية مع اننا نحفظ شعره ونحتفل به . كأن أحمد فؤاد نجم يلقن في الخفاء ومن وراء الستارة، يلقن الكلام للمثل . يصفق الناس للمثل، للصوت ، وصاحب الكلام يستمع فقط للتصفيق الذي ليس له .
تلك السلالة من الشعراء كمنت زمنا في وجدان الناس وما زالت عنوانا يقصده السياح الذين يغويهم التاريخ … وتقصده الجموع المهزومة علها تبدأ من جديد .

** الكلمة التي القيت في حفل تكريم الشاعر أحمد فؤاد نجم في الأونيسكو، نهار الخميس 31 كانون الثاني ٢٠٠٢ .