Scroll to top

وأكمن للمارة…. وأكمن للكلام

دعني أعد الى حادثة خلف الأحمر وأبي نواس: نعرف أن خلف الأحمر كان استاذه، ونعرف أنه في يوم دخل أبو نواس على خلف الأحمر وقال له أريد أن أصبح شاعراً، وكانت هناك علاقة ملتبسة بين خلف الأحمر وأبي نواس، فقال له هل أنت مصرّ، قال بلى خذ هذه العشرة آلاف بيت من الشعر، أحفظها كلها غيباً، عروضاً وتفسيراً وبلاغة وبياناً، أحفظها جميعاً وخذ وقتاً ستة أشهر ثم ارجع، ذهب أبو نواس بالعشرة آلاف بيت من الشعر وعاد، سأله خلف: حفظتهم؟ قال نعم واستوضحه عما إذا كان لا يزال مصراً لأن يكون شاعراً، قال نعم، قال اذهب وانسهم، كيف أنساهم؟ هذا شأنك، اذهب وانس ما قرأت، ذهب ستة أشهر وعاد، قال له، نسيتهم فقال له افترض انني مت ارثني، رثاه نظر خلف الأحمر في الرثاء، فقال له فعلاً أنك قد نسيت. لأنه كتب جديداً ليس له علاقة بما حفظ، هنا النسيان الثمين. إننا بحاجة الى معرفة كثيرة ونسيان كثير لنبتدع نصنا الجديد.
وأكمن للمارة وأكمن للكلام، المقهى الذي تشاهدني فيه دائماً هو فعلاً بيتي ولا أقول الثاني، إنه حيث تتدرب أحلامي على العيش، وأقول لك أيضاً بأن المقهى بالنسبة لي هو حركة الحرية الهائلة التي لا يوجد مثيلها في أي مكان، في المقهى الذي تتكلم عنه، حرية مقهورة، هذه الطاولة، لك وليست لك، هذا الممشى لك وليس لك، تمر فيه، يقعد أناس لا تحبهم، تغادر يغادرون، تغير الموضوع، تسكت او تتكلم، انت حر وسيد مطلق في هذه الرقعة البسيطة من العالم. المقهى ديوانية، إلا أنه يخسر الزعيم لتنطلق الحرية مباركة وجميلة، هو المطبعة والجريدة والكتاب، هو شرفة المطار وهو عناق الأمية وهو المواعيد السرية الملتبسة، وهو الصدفة الهائلة المفتوحة المفاجأة والاحتمالات.