Scroll to top

«إختصر» .. قوس السخرية

أدّعي بأنني قرأت مقالات فيصل سلمان قبل ان يكتبها. والأرجح أنني سمعتها قبل ان يكتبها وينشرها الى يمين الصفحة الثالثة في جريدة السفير.
أقول سمعتها لأن فيصل واحد من أعمدة جريدة الهواء. قبل عموده في الصفحة الثالثة له أعمدة يومية دون اجازات، في الجريدة اليومية الرائعة التي هي جريدة الهواء.
ما إن ينعقد المجلس ويبدأ الارتجال في التعليق على الخبر الطريف والسياسة والطعام والشراب والنساء يكون تدخل فيصل الذي هو أبو الفواصل، بامتياز، كمن يرفع الحياة الى مستوى السخرية اذ هو يرفعها الى مستوى الذكاء.
ثمة لاعبون كثيرون او قليلون وثمة لعبة دائرة وتلك الزوايا في المقاهي تشكل الملاعب الضرورية وثمة هجوم ودفاع ووسط، وفيصل بينهم قلب الهجوم الأخّاذ مفاجئ ومناور ومراوغ وهدّاف. يشد فيصل قوس الكلام ويرمي بالسهم اللامع فيصيب لينفجر الضحك حتى تتوقف حركة السير في الشارع وهو صياد خبير، بالطرائد الضحايا، اكثر من يلفت نظره الضحايا: والناس او صيادون او ضحايا.
من هناك، من هنا، بدأ مقال فيصل سلمان. وكان خائفا. اشتغل كثيرا في الصحافة ولم يكتب مقالته. انتظر طويلا حتى ارتكبها، تمرّن بقسوة وصبر على المشافهة ولعب حتى كثر الأصدقاء والمريدون والأعداء. وكان خائفا يجادل الجواب على السؤال: كيف ينتقل الكلام من المشافهة الى الكتابة ويظل يحمل طرافته وذكاءه وانتباهه وجدته. وكان يعرف انه أمر صعب ولكنه ممكن.
أدعي ايضا بأنني كنت أحفّزه دائما ليجرّب وكنت أرى ان مقالة الهواء أصعب من مقالة الورق. ومن يستطع ملاعبة الهواء يستطع حتما ملاعبة الورق.
لا يستقيم هذا الكلام إلا اذا لاحظت أنني اكتب عن مقالة فيصل سلمان كعمل فني ابتكاري ينحاز الى شروط الكتابة كإضافة لافتة. أقول عن مقالته بوصفها نزهة ممتعة للبصر والبصيرة في وقت شحّت فيه النزهات وقلّت حدائق الكلام الذي يرمي في قلبك فرحا يحدثه عادة المفاجئ والجديد.
وهو بهذا المعنى يعيد للصحافة وللمقال في الصحافة، فن صياغة الخبر، يعيد للصحافة ذلك الشرط الضروري في شخصية الصحافي: الظُرف والطرافة والانتباه والذكاء والحضور والارتجال.. شروط صارت من الكماليات في عصر التخصص وأعني في عصر العقل.
لذلك يقع فيصل سلمان وهو يكتب مقالته في الشعر وفي المسرح وفي السينما وفي الرواية. يقع في المنطقة التي تُصدر فنون القول ويذهب الى منابعها.
وأنت اليوم، وبكل أسف، ترى فيصل سلمان حاملا عموده على كتفه، يخطو في المدينة بتثاقل حذر، فلم يعد ذلك الحر الذي يغط ويلسع ويطير، صار صاحب عمود وعليه حمايته وتطويره وابقاؤه على جماله. صار ملاّكا صحافيا ولم يعد ذلك المنفلت على هواه في هواء المدينة يشتغل أنسها ببلاغة رائعة.
معه حق طلال سلمان، في مقدمة الكتاب الذي جمع فيه فيصل مختارات من مقالاته. معه حق عندما أشار الى مناصرين ومعجبين ومبتهجين بفيصل وكاد يقول حزبيين في التيار العريض لأجمل ما في النفس البشرية من طباع: السخرية والضحك.