Scroll to top

نهر يؤلف الشلال

وصل شعره قبله إلى بيروت. وصلت قصيدته قبله إليّ. أسرع منه قصيدته. أظن أنها كانت بسرعة الصوت إلا قليلاً.
أول اصطدام لي بشعر الأبنودي، الخال عبد الرحمن، كان في احدى سيارات الأجرة. الراديو تخرج منه أغنية لعبد الحليم حافظ. انتبهت أن الكلام الذي يغنيه عبد الحليم غريب عن القماشة التي عهدناها في أغانيه. غريب عن كلام الأغاني المصرية برمتها. لم تكن الأغنية مشهورة، وكانت قليلاً ما تــذاع ربما لأن جمهور عبد الحليم لم يكن مستــسيغاً كلام الأغنية.
سألت بعض العارفين بالأغاني عمن كتب كلمات الأغنية وعرفت أنه عبد الرحمن الأبنودي. الشعر عندما يصل إلى الوقوف على حدِّ الخطر، بين الشعبوية الموظفة للتعبئة، وبين الأغنية التي مستواها التعبيري شعري بامتياز وتظل تناضل بالجمال الأخاذ والموهبة المطمئنة. تناضل من أجل مصر وإنسانها كأحلى ما يكون النضال. مجاز وطني مصراوي يلاعب الألم وينازله ويقدم عرضاً يدخل سريعاً كالسهم في قلوب ذوي الألباب.
«عدّى النهار
والمغربية جايه
بتتخفى ورا ضهر الشجر
وعشان نتوه في السكة
شالوا من ليالينا القمر
وبلدنا عالترعه بتغسل شعرها
جانا نهار ما قدرش يرفع مهرها.
مقطع من قصيدة «عدى النهار» ولا أقول فقط أغنية «عدى النهار».
لم يكن شجن عبد الحليم حافظ ساطعاً أكثر من قصيدة الأبنودي.
بعدها تتبعته وسمعته في التلفزيون وفي بعض المنتديات العربية وتعرفت إليه من بعيد.
انتبه صديقنا الشاعر بلال شرارة رئيس الحركة الثــقافية إلى الأبنودي فدعاه إلى بيروت. من هنا من حــوالي ربــع قرن بدأت بيني وبين الأبنودي صداقة أظنها كانت جميلة.
ذهبت إليه مراراً إلى الفندق وزارني مراراً في البيت. تعرفت إلى زوجته وابنتيه. فلّتان على صدر الربيع. وسيدة من عنب «الغيط» خاصة عندما يُعصر.

لماحٌ، نفاذٌ، لاذع، جريء، أليس هو الخال عبد الرحمن. الا ينتبه أحد الى أن لقب الخال هو أرقى ما وصل إليه الرجل أي رجل من صفات وألقاب.
وزع عبد الرحمن على كل منا لقباً كان يناديه به وكنا كثرة. وفرحنا جميعاً بألقابه الذكية الوارفة. وأحببنا لسعة العسل الطيبة.
كثرت زياراته للبنان خاصة إلى الجنوب اللبناني حيث كانت المقاومة خطاً أحمر بالنسبة للأبنودي وكان برغم حالته الصحية التي لم تكن مستقرة، يأتي في المناسبات الوطنية التي يختارها بلال. ويدعوه اليها. ونقرأ معاً في الأندية والاحتفالات. وكان أحياناً يقرأ وحده فيبدو وكأنه شجرة تحكي أو نخلة كأنما تمِّر بلحها.
هذا في الرجل. فماذا عن الشاعر؟
هو شاعر وقوّال. يصل في الشعر إلى مستوى نشط للمخيلة حيث يروح يرود جغرافيا جديدة في النفس البشرية. ان ملاحظته للناس وللأشياء كانت تضع الناس والأشياء في المجاز الذي هو الشعر. أحياناً كان يقول. يعدد. يفصل. يروي. يسرد، يرتمي في المباشر النثري.

إلا انه مع ذلك تطل في قوله علامات الشعر الكبرى.
ان نظره الثاقب كان يسمح له بمطالعة الروح. الخاصة والعامة. الروح، السر العميق الذي لا ينكشف إلا للأذكياء الأبرار. من هناك من روحه وروحهم كان ينبثق الشعر والقول كنهر يؤلف أحياناً شلالات.
ما زال باكراً إنشاء فريق غطاس، يذهب سريعاً إلى بحره، إلى بحيرته، فيغطس ويخبرنا بعدها ماذا رأى وما الألوان.