Scroll to top

إلى شريف الاخوي

وصل السيد حسين الأخوي الى صور، قال الراوي، وقف على مرتفع وصوب نحو البحر تعبه وعينيه، فرأى ما بين البحر وعينيه. ورأى ما لا يرى. يقول الراوي أن الناس كانوا بين السيد حسين وبين البحر. وكانوا مرضى ومتعبين.
لم يهتم السيد حسين للبحر وانحنى على التراب. أخذ عشباً وزهراً من الأرض وقطف ثمراً من بساتين صور، ثم راح يمرر الدواء على الأجساد ويمسح بالكف على المرضى. منذ ذلك الحين، يقول الراوي، دب في المدينة خبر عن السيد الطبيب الذي نسي البحر وحفظ الناس. وها هو يدور بين بيوتهم يعالج، بالتي هي أحسن، أجسادهم وأنينهم الراجع من مجادلة الريح.
وكان السيد نور الدين، ابن السيد حسين الأخوي يراقب أباه يشتغل على أجساد الناس. يروح ويجيء ويستقبل ويسهر، ينقط في أفواه المرضى، ويدهن على أبدانهم، يقول الراوي أن نور الدين كان يراقبهم أيضاً وكان يلاحظ أن أمراضاً في الرؤوس لا يهتم بها والده السيد فانصرف اليها. جمع نور الدين الأخوي أولاده ثم أخذ يقرأ عليهم دواء العقل. ثم جمع الأولاد معهم، وأنشأ أول مدرسة في مدينة صور.
وكان السيد شريف ابن السيد نور الدين الأخوي يراقب أباه قال الراوي، وكان سليل طبيبين واحدٍ للأجساد والآخر للعقول، وما كان بوسعه إلا أن يتابع.
وكما نسي نور الدين البحر وحفظ الكلام. كذلك نسي شريف الأخوي البحر وحفظ الموج. وما كانوا بحارة ولكنهم في غير موضع يبحرون.
يقول الراوي أن شريف الأخوي بدأ مشواره بالتمرن على أحد لم يكن هو يعرفه على الأرجح. بدأ باللغة، معلماً ينتقل من حرف الى حرف ومن كلمة الى كلمة، يتنزه في الأبجدية ويقلب أحوال الكلام. كان وصوتاً في غرفة لا يسمعه إلى من فيها وكانوا قلة. أربعون على الأكثر، وضجر شريف يقول الراوي، كأنه يريد معالجة المدينة ولا يكتفي بغرفة فيها، وربما معالجة أكثر من مدينة أيضاً. وكان شريف الأخوي يتململ. جدّه وجد مدينته، وأبوه أيضاً، وكان هو يفتش عن مدينة وبدت صور أصغر من مساحته.
يقول الراوي بأن شريف، عندما نسي البحر وحفظ الموج، كان يسمع بأن الموج ليس فقط في البحر في الهواء أمواج أيضاً. وكان يحلو له أن يطير، أن يشد إلى حيث ينتشر، أن يقف فوقك وتحتك وحواليك وكان يفتش عن مكان ولم تخذله بيروت.
«بيروت منزل تأوي إليه القرى وتزيد فيه وعليه، تبدله ويبدلها، بيروت صحن الدار، يجتمعون فيه ثم لما تندلع شرارة الليل، يدلفون الى غرفهم ويقفلنها من الداخل في جبلة كافية لكسر الصحن ومن الداخل أيضاً».
لم تخذله بيروت، تأخذه كأم وتعطيه منبرها ومنصتها وصدرها الذي تخفق فيه أدراج من كل صنف ولون. ويعطيها هو فرحاً لطيفاً ككل الأمهات التي تستعرض أبناءها الأبرار.
مولعون بالكثرة، بيت الأخوي، يقول الراوي، مولعون بالاجتماع، وإذا اشتغلوا فمع الكثرة أيضاً، وإذا أمنوا الى بيوتهم، أشعلوا نارهم وتركوا الباب مفتوحاً وهم في الداخل يسهرون. ربما مرّ صديق، ثم صديق، ثم ينعقد الاجتماع على خبز وضحك، وملح، وكلام.
ينتقل شريف الأخوي من منصة غرفة التدريس الى منصة المدينة، ثم الى منصة الوطن ويجتمع على صوته الناس. ترى ما الذي دفع شريف الأخوي إلى برنامجه الشهير «نزهة» ذلك المعلم الذي تنزّه في الأبجدية وفي بساتين الكلام. بدأ يتهجى القرى. كأنه كان يخيط المدينة بالقرية بالمدينة وهو ينتقل من مكان الى مكان، يعرّف ويسلي ويطرب ويحادث. ما الذي دفعه الى تقطيب البلاد ودَرْزِها من الشمال الى الجنوب، ومن الشرق الى الغرب. يدرزها حجراً حجراً، شجرة شجرة، إنساناً إنساناً.
هل كان يحدس أن ثمة انفجاراً رهيباً، متناثر بسببه المتحد الواحد الوطن. هل كان شريف الأخوي يسجل بالفاصلة والنقطة والخط والزيح، قامة لبنان هل كان يسجل في ذاكرة الناس قامة الوطن المهددة، هل كان يحفظ الصورة قبل أن يشققها العنف وهي معلقة على جدار البيت العربي الكبير الذي من عتقه، وغباره تتشقق الصور ويأكلها العت المقيم دائماً في القصور المهجورة والخزائن المقفلة.
ثم يحاصرونه في بيروت، تندلع حرب التقدم وتتقدم ويتقدم معها الناس الى المذبحة الخرافية التي نارها الناس والحجارة، يحاصرونه في بيروت فتحولها بسرعة الى بيت كبير، يدرسها، بناية بناية زاوية زاوية، شارعاً شارعاً، غرفة غرفة، ثم يجلس الى منصة القيادة ليدل ويصرخ ويبكي. ثم لكي ينقذ المدينة، كان يقلل من القتلى والحرقى والمخطوفين. يطارد الكمائن والقناصين كصياد الصياد أخطر مهنة في الكون هي اصطياد الصيادين.
وقد انصفه الناس، علقوا صوته في آذانهم حلقاً من أجل ما عرف فن التزيين.
من يدلني على غضب مدني يشبه غضب شريف الأخوي، الغضب الأبيض، الصوت الذي يدهن على جسد المدينة ذي القروح، صوت من توابل الروح وروائع الضمير.
أنصفه الناس وزعلت منه الحرب. ولأن الحرب كانت سيدة على الوقت وعلى الناس، خرج شريف الأخوي من الإذاعة، كموا فمه وغلوا يديه. غاروا منه وهو ينافسهم نحو الإسلام، وهو ينافسهم باتجاه القلب، غاروا منه وكمّوا فمه، فاستقبلته الإذاعات العربية وجبرت خاطره. كلما خسر جمهوراً كان يطير إلى جمهور جديد، المنطلق الجسور، المستعجل، صديقي.
لا أنسى رجوعه الى الإذاعة يساعد مديرها الجديد. كأنه كان يعود الى أمه، الى غرفته، الى صوته. وكان يتصرف كمن رد إليه الاعتبار.
في آخر عودة له إلى صور، يقول الراوي، خرج البحر إليه هذه المرّة. البحر الذي نسيه شريف الأخوي. خرج البحر يستقبل شريفاً ويبيض بالزبد وجه صور. وعلى تلة صغيرة مواجهة للبحر، ولا تبعد عن الموج، تمدد شريف في آخر التعب. قرب سور المقبرة. على كعب حائط السور. ولا أعرف ولا يعرف أحد غيري، إذا كان شريف يقول شيئاً، أو يجد شيئاً تحت التراب، ولا نعرف كلنا ربما، إذا كان داخل المقبرة أو خارجها، على الزيح، زيح الموت والحياة. مرّة هو في الداخل يغلّ في نسخ التراب ويصبح فاصلاً من حركة الموج، ومرّة في الخارج يقيم في الذاكرة وتراه العين، يروح ويجيء ويجلس في طرف الصالون على أهبة ليفتح الباب، رن الجرس أم لم يرن، يعرف شريف أن أحداً دائماً، يأتي إليه، وله وجه آخذ جاد وزينة ورامي، أمّا تمين فأنا أنحني أمام سوادها الواقف.