Scroll to top

إلى والدي أبو غازي

ايها الشرطي الجميل

يعز علي ان احدثكم عنه ولا يسمعني ، وقد كان مستمعا جيداً لما أكتب وأقول. مستمعا مخيفا كأنه بالسليقة ناقد عادل وشجاع.

وكنت أحب كثيراً وأتمنى أن يستمع إليّ وأنا أحيله الى الكلام. أرتب صفاته كأنني أرويه كما تروى سير الرجال الذين يشبهون الكتب. أقلب صفحاته الكثيرة، أقرأ وأحدّق في الصور . ثمة في ذاكرتي صور عديدة للرجل الذي هو أبي.
ولا أرويه لأنه العادي من الرجال، ولا أرويه بمبالغة تصير كلاما عن سواه ولن أقول عنه ما ليس فيه. كان يردد دائما أمامي ان الكتابة تكون صادقة وجميلة او لا تكون .
سأحاول أن أتذكره أمامكم. وبصوت مرتفع لنشارك جميعا في النظر الى المشهد او الى الرجل الذي عُرف واشتُهر بمحمد منيف، أبو غازي.

ثلاثة فصول أقلّبها في كتابه. ثلاثة وجوه اعرضها عليكم لتتعرفوا إليه كما يليق أن نتعرف إلى الغائبين الذين نحبهم. يصير الكلام عن الغائبين استحضارا لهم كأننا من جديد نعيدهم الى الحياة . يقف الكلام عن الغائبين بينهم وبين الموت كأنه درعهم السحرية ودفاعهم الاخير. أو يسقطون في النسيان او نتحدث عنهم. وانا لا أنسى ولا أربد، لذلك أعدد أمامكم وجوهه الثلاثة.
الوجه الأول ل «أبو غازي» وجه اليافع المستعجل والنشيط باكرا هجم على الحياة. هجم على العمل والغربة والأسرة هجوما كأنه الانفجار. في الخامسة عشر اشتغل عند الانكليز وهم يقيمون خط دفاع في سهل الخيام وينشئون مستشفى ميدانيا هو الأطلال التي تعرفونها الآن، مع أنه وحيد لا إخوة ولا أخوات، مع أن والده ميسور وصاحب مخزن مع ذلك يذهب باكراً إلى العمل ثم يكبر عمره سنتين ليصبح جنديّا في الجيش الذي كان يبنيه الفرنسيون. ثم سريعا يتزوج قريبته مهيبة وتنجب له غازي وهو ما زال في السابعة عشرة وهي كذلك. ثم سريعا ينتقل الى سلك الشرطة في صيدا ثم بسرعة ايضا الى شرطة بيروت. حصان العائلة يجرهم الى حيث ينبغي وهم يتكاثرون في الطريق فتزداد حمولة العربة والحصان النبيل يجتهد ويحمحم ويكون لصهيله نكهة الرجولة والشجاعة والالتزام.
كأنه لا يشبه أحداً ولا يشبهه أحد. السريع على وعي وثقة بالنفس والتزام بالأسرة كأنه طلقة شابة تُرمى وتُصيب.
الوجه الثاني هو وجه الشرطي. منذ أكثر من نصف قرن، وكانت بيروت قيد الإنشاء، كان الشرطي كائنا جميلا. ثياب أنيقة مزينة وملونة. القبعة كانت حمراء، والأوسمة والنياشين والرتب والأزرار والجلد. كان الشرطي كائنا جميلا يخافه اللصوص ويهابونه، يهابه الجيران أيضا. كنا غرباء في الحي الذي أقمنا فيه، مع ذلك لم نتصرف كغرباء خائفين أو حذرين. كان هو ظهيرنا. دون أن يتدخل كان الجميع يحسب حسابه. حتى إن والدتي كانت تقيم في المنزل مجلس عزاء في عاشوراء ونحن البيت الوحيد في الحي. مع ذلك كان الجيران يتفاهمون كثيرا مع الإمام الحسين وهو يسير ثابتا نحو الشهادة، وكانوا يبكون.
كنا في بيروت أسرة يحمي ساحتها شرطي ثم معاون مفوض في الشرطة حيث صارت السلطة أكثر اتساعا وشمولا.
كنا نتحلق حواليه وهو ينظف المسدس، والمسدس سلطة. يفكك المسدس ينظف كل قطعة ثم يعيد تركيبه ونحن حواليه كأنه حاو او ساحر وكنا ننتظر بفارغ الصبر ان يحين أوان التنظيف. مسدس الشرطي شرعي لذلك كنّا نألفه ولا نخاف. الخوف يأتي ربما من المسدسات التي عادة تكون أداة جريمة، مسدس الشرطي ردّ عليها.
أذكر ايضا انّا كنا نتزاحم «لنشلحه» الجزمة التي لا يستطيع خلعها وحده. يعود تعبا ومرهقا فنركض إليه لنخلع جزمته كأننا نخدم الحصان الذي يجرنا بكرامة كانت عنوانا من عناوينه.
وأنا أقلب وجه الشرطي أفتح هلالين لأقول كلاما يتعلق بدوره كشرطي ومعاون مفوض في بيروت الخمسينيات.
كان ابو غازي متعصبا. كان من الناس الذين يحبون ويكرهون، يجادلون ويقاتلون. لم يكن يمر عابرا لمروره صوت وحركة، لمروره في الحياة رائحة زكية لافتة. لا يمكن ان لا تنتبه إليه و هو يمر أو يحدث أو ينظر .
كان متعصبا لأفكار وقيم قديمة تظل تسير في الزمان، لا يعيبها انها قديمة، الذهب قديم ايضا.
متعصب للأسرة الصغيرة، لأولاده وأحفاده، متعصب للعائلة الكبيرة، أهله وأعمامه وأخواله وأقربائه. عبد اللآوي حتى الصميم، متعصب للخيام، لأهلها وناسها وتاريخها، وكان عامليا كأنه الشفرة الحادة حينا وكأنه البكاء أيضا.
كان الخياميون من جميع العائلات يقصدون بيروت للعمل. وماذا كان يعمل الخياميون في بيروت، الجنوبيون بشكل عام. كانوا يشتغلون في قعر المدينة يدبون كغرباء ووافدين … وكانوا حتما يلتقون أكثر ما يلتقون بالشرظي الذي هو ممثل السلطة في الشارع حيث يدب الغرباء.
كان يساعدهم جميعا بلا استثناء، من العائلة كانوا أو من سواها، حتى اذا انشئت رابطة لأهل الخيام تكون ممثلة لأحد شطري الانقسام في الخيام،  رابطة لا يقبل فيها احد من آل العبدالله، كان أبو غازي عضو شرف في هيئتها الادارية.
متعصب، نعم، لكل ما هو نبيل وجميل وكريم في النفس البشرية.
صاحب الخط الجميل والذي حوّل التحقيق العدلي الى ما يشبه الأدب، الى ما يشبه الرواية. كنت أحمل له طعامه من بيتنا الواقع بين البسطة وبرج أبي حيدر إلى راس بيروت. مخفر حبيش حيث كان معاونا وكنت أراقبه كيف يكتب وماذا يسأل وكيف. يتعامل الآمر الناهي اللطيف على دعابة، الحازم في الجد والذي يستسهل أي معركة لعلمه أنه من الرابحين. ومع أنه لم يكن مواليا لقيادة الطائفة آنذاك، آل الأسعد، إلا أن ذلك لم يمنعه من المقاتلة والثبات والدفاع عن نفسه وقد حمته موهبته وشغله وكفاءته حتى صار شائعا في سلك الشرطة حيث القلم الذي اسمه أبو غازي.
الوجه الثالث هو وجه الراوي.
منذ ثلاثين عاما ترك أبو غازي الوظيفة وتقاعد. كيف يتقاعد الشرطي الذي حياته مليئة بالوقائع والأحداث.
كيف يتقاعد؟ يلعب ويتسلى يلعب بطاولة الزهر ويلعب بالأربعة عشر ويتسلى بالقراءة والكلام.
قبل سن العاشرة بقليل، عندما بدأ يدب في الوعي، عثرت في البيت على كتب كثيرة. أكثرها الروايات البوليسية حتى إن اللص الظريف آرسين لوبين بطل الروايات في ذلك الزمان كان يقيم بيننا ومعنا في البيت. وفي البيت الدفتر الأحمر الكبير الذي دوّن فيه مجموعة من القصائد لشعراء جنوبيين اهتموا بالخيام وكتبوا عنها وعن أهلها. وعثرت على دواوين لشعراء مختلفين.
لم يكن شاعرا مع أنه تعاطى الشعر في الفصحى والمحكية.
ولم يكن كاتبا مع أنه تعاطى كتابة بعض الرسائل لأصدقاء معروفين.
كان محققا لامعا ومطاردا جسورا لكل من تسول له نفسه أن يجرب الجريمة. كان يعلق على الحائط في بيروت،
ضمن براويز زجاجية، كتب التنويه الكثيرة التي كان يوجهها إليه قادة الشرطة لبراعته في فك ألغاز الجرائم والقبض على المجرمين.
وهو الراوية والمحدث. يحفظ الكثير من القصائد والأخبار والنوادر والطرائف.
يعرف الكثيرون ممن يسمعونني الآن أنه كان ساحرا عندما يكرج في الكلام عن حادث أو خبر . في التاريخ وفي الأدب وفي السياسة. وخاصة السياسة المحلية حيث كان يعرف السياسيين الجنوبيين ويروي عنهم. يروي أخبارهم الجميلة وأخبارهم غير الجميلة. ممتع يجعلك تضحك من القلب عندما يحدثك عن مفارقات ومشاكل ومقالب.
اختبا أثناء الحرب الأهلية كما فعل كل الأوادم، اختبأ في شارع الحمرا سنوات حتى إذا انتهت الحرب عاد الى منزله في الشياح ليتابع سيرته ويطوي أيامه تحيط به العائلة. بناته وأصهرته وأبناؤه رهن الإشارة، يبذلون من أجله معظم وقتهم ويلبون فورا أي أمر أو نداء.
ثم لما تحررت الخيام وتحرر البيت والطريق والأرض كان يصيّف في الخيام. والخيام الأهل والمعشر، يقصدونه في الصباح والمغرب يتنادمون ويتحلقون حوله وهو الذي لم يعد يستطيع الخروج فقد أقعده المرض في السنوات الأخيرة وكان عليه أن يروي ويحدث، أن يلعب بالكلام ليمر الزمن هادئا لطيفا.
عندما توفي <<أبو علي>> محمد موسى العبد الله منذ أربعين يوما تقريبا أصيب بما يشبه الكارثة. كان أبو علي نديما يوميا. أبو علي الرائع الأنيق المهذب. صف الضابط في الجيش، الرياضي الوسيم، والمتقاعد مثله.
عندما توفي أبو علي خفت عليه وعلى الوالدة أيضا وكان يردد في المستشفى أنه ذاهب نحو أبو علي وأظن أنه أدركه فعلاً.
مستقر هناك، في طرف المقبرة أنظر إليه من الشباك الغربي للبيت، أنظر إليه وأحس بأنه ورائي في الغرفة الموازية حيث كان يقعد مجلس الصباح. أحس بأنه مازال هنا وهناك ويخيل إليّ أنني أسمعه يصدر آخر الأوامر .

في مناسبة ذكرى أسبوع والده محمد منيف العبد الله.

إلى والدي (أبو غازي)